سورة الصافات - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصافات)


        


{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)}
هذا هو القصة الخامسة، وإنه تعالى إنما ذكر هذه القصة ليعتبر بها مشركو العرب، فإن الذين كفروا من قومه هلكوا والذين آمنوا نجوا، وقد تقدم شرح هذه القصة، وقد نبههم بقوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل} وذلك لأن القوم كانوا يسافرون إلى الشام والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار، فلهذا السبب عين تعالى هذين الوقتين.
ثم قال تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} يعني أليس فيكم عقول تعتبرون بها، والله أعلم.


{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)}
واعلم أن هذا هو القصة السادسة وهو آخر القصص المذكورة في هذه السورة، وإنما صارت هذه القصة خاتمة للقصص، لأجل أنه لما لم يصبر على أذى قومه وأبق إلى الفلك وقع في تلك الشدائد فيصير هذا سبباً لتصبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى قومه.
أما قوله: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين * إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف قريء يونس بضم النون وكسرها.
المسألة الثانية: دلت هذه الآية على أن هذه الواقعة إنما وقعت ليونس عليه السلام بعد أن صار رسولاً، لأن قوله: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين * إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك} معناه أنه كان من المرسلين حينما أبق إلى الفلك، ويمكن أن يقال: إنه جاء في كثير من الروايات أنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله، ثم أبق والتقمه الحوت فعند ذلك أرسله الله تعالى، والحاصل أن قوله: {لَمِنَ المرسلين} لا يدل على أنه كان في ذلك الوقت مرسلاً من عند الله تعالى، ويمكن أن يجاب بأنه سبحانه وتعالى ذكر هذا الوصف في معرض تعظيمه، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان المراد من قوله: {لَمِنَ المرسلين} أنه من المرسلين عند الله تعالى.
المسألة الثالثة: أبق من إباق العبد وهو هربه من سيده، ثم اختلف المفسرون فقال بعضهم: إنه أبق من الله تعالى، وهذا بعيد لأن ذلك لا يقال إلا فيمن يتعمد مخالفة ربه، وذلك لا يجوز على الأنبياء واختلفوا فيما لأجله صار مخطئاً، فقيل: لأنه أمر بالخروج إلى بني إسرائيل فلم يقبل ذلك التكليف وخرج مغاضباً لربه، وهذا بعيد سواء أمره الله تعالى بذلك بوحي أو بلسان نبي آخر، وقيل: إن ذنبه أنه ترك دعاء قومه، ولم يصبر عليهم.
وهذا أيضاً بعيد لأن الله تعالى لما أمره بهذا العمل فلا يجوز أن يتركه، والأقرب فيه وجهان الأول: أن ذنبه كان لأن الله تعالى وعده إنزال الإهلاك بقومه الذين كذبوه فظن أنه نازل لا محالة، فلأجل هذا الظن لم يصبر على دعائهم، فكان الواجب عليه أن يستمر على الدعاء لجواز أن لا يهلكهم الله بالعذاب وإن أنزله، وهذا هو الأقرب لأنه إقدام على أمر ظهرت أماراته فلا يكون تعمداً للمعصية، وإن كان الأولى في مثل هذا الباب أن لا يعمل فيه بالظن ثم انكشف ليونس من بعد أنه أخطأ في ذلك الظن، لأجل أنه ظهر الإيمان منهم فمعنى قوله: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك} ما ذكرناه الوجه الثاني: أن يونس كان وعد قومه بالعذاب فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمستور عنهم فقصد البحر وركب السفينة، فذلك هو قوله: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك} وتمام الكلام في مشكلات هذه الآية ذكرناه في قوله تعالى: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مغاضبا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] وقوله: {إِلَى الفلك المشحون} مفسر في سورة يونس والسفينة إذا كان فيها الحمل الكثير والناس يقال إنها مشحونة، ثم قال تعالى: {فساهم} المساهمة هي المقارعة، يقال: أسهم القوم إذا اقترعوا، قال المبرد: وإنما أخذ من السهام التي تجال للقرعة {فَكَانَ مِنَ المدحضين} أي: المغلوبين يقال: أدحض الله حجته فدحضت أي: أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدحض الذي هو الزلق، يقال: دحضت رجل البعير إذا زلقت، وذكر ابن عباس في قصة يونس عليه السلام أنه كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف، وكان الله تعالى أوحى إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم، فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبي من أنبيائهم أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل له حتى يبعث إلى بني إسرائيل نبياً، فاختار يونس عليه السلام لقوته وأمانته، قال يونس: الله أمرك بهذا قال: لا ولكن أمرت أن أبعث قوياً أميناً وأنت كذلك، فقال يونس: وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعثه، فألح الملك عليه فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم ووجد سفينة مشحونة فحملوه فيها، فلما دخلت لجة البحر أشرفت على الغرق، فقال الملاحون: إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر، وقال التجار: قد جربنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع، فمن خرج سهمه نغرقه، فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل فخرج سهم يونس، فقال التجار: نحن أولى بالمعصية من نبي الله، ثم عادوا ثانياً وثالثاً يقترعون فيخرج سهم يونس، فقال: يا هؤلاء أنا العاصي وتلفف في كساء ورمى بنفسه فابتلعته السمكة فأوحى الله تعالى إلى الحوت: ا تكسر منه عظماً ولا تقطع له وصلاً ثم إن السمكة أخرجته إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى بحر البطائح ثم دجلة فصعدت به ورمته بأرض نصيبين بالعراء، وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين، فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى تشدد، ثم إن الأرض أكلتها فخرت من أصلها فحزن يونس لذلك حزناً شديداً، فقال: يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والريح وأمص من ثمرها وقد سقطت، فقيل له يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة واقتلعت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم! انطلق إليهم، والله أعلم بحقيقة الواقعة.
ثم قال تعالى: {فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ} يقال: التقمه والتهمه والكل بمعنى واحد، وقوله تعالى: {وَهُوَ مُلِيمٌ} يقال: ألام إذا أتى بما يلام عليه، فالمليم المستحق للوم الآتي بما يلام عليه.
ثم قال تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وفي تفسير كونه من المسبحين قولان الأول: أن المراد منه ما حكى الله تعالى عنه في آية أخرى أنه كان يقول في تلك الظلمات {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] الثاني: أنه لولا أنه كان قبل أن التقمه الحوت من المسبحين يعني المصلين وكان في أكثر الأوقات مواظباً على ذكر الله وطاعته للبث في بطن ذلك الحوت، وكان بطنه قبراً له إلى يوم البعث، قال بعضهم: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، فإن يونس عليه السلام كان عبداً صالحاً ذاكراً لله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: {فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} وإن فرعون كان عبداً طاغياً ناسياً، فلما أدركه الغرق قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل} [يونس: 90] قال الله تعالى: {ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91] واختلفوا في أنه كم لبث في بطن الحوت، ولفظ القرآن لا يدل عليه.
قال الحسن: لم يلبث إلا قليلاً وأخرج من بطنه بعد الوقت الذي التقمه، وعن مقاتل بن حيان ثلاثة أيام وعن عطاء سبعة أيام وعن الضحاك عشرين يوماً وقيل شهراً ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة، فقال: ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم، فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل فذاك هو قوله: {فنبذناه بالعراء}» وفيه مباحث:
الأول: العراء المكان الخالي قال أبو عبيدة إنما قيل له العراء لأنه لا شجر فيه ولا شيء يغطيه.
الثاني: أنه تعالى قال: {فنبذناه بالعراء} فأضاف ذلك النبذ إلى نفسه، والنبذ إنما حصل بفعل الحوت، وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى.
ثم قال تعالى: {وَهُوَ سَقِيمٌ} قيل المراد أنه بلي لحمه وصار ضعيفاً كالطفل المولود كالفرخ الممعط الذي ليس عليه ريش، وقال مجاهد سقيم أي سليب.
ثم قال تعالى: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ} ظاهر اللفظ يدل على أن الحوت لما نبذه في العراء فالله تعالى أنبت عليه شجرة من يقطين وذلك المعجز له، قال المبرد والزجاج كل شجر لا يقوم على ساق وإنما يمتد على وجه الأرض فهو يقطين، نحو الدباء والحنظل والبطيخ، قال: الزجاج أحسب اشتقاقها من قطن بالمكان إذا أقام به وهذا الشجر ورقه كله على وجه الأرض فلذلك قيل له اليقطين، روى الفراء أنه قيل عند ابن عباس هو ورق القرع، فقال: ومن جعل القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين، قال الواحدي رحمه الله والآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون أحدهما: أن هذا اليقطين لم يكن قبل فأنبته الله لأجله والآخر: أن اليقطين كان معروشاً ليحصل له ظل، لأنه لو كان منبسطاً على الأرض لم يمكن أن يستظل به.
ثم قال تعالى: {وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وفيه مباحث:
الأول: يحتمل أن يكون المراد وأرسلناه قبل أن يلتقمه الحوت وعلى هذا الإرسال وإن ذكر بعد الالتقام، فالمراد به التقديم والواو معناها الجمع، ويحتمل أن يكون المراد به الإرسال بعد اللالتقام، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانت رسالة يونس عليه السلام بعد ما نبذه الحوت، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون أرسل إلى قوم آخرين سوى القوم الأول، ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين ثانياً بشريعة فآمنوا بها.
البحث الثاني: ظاهر قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} يوجب الشك وذلك على الله تعالى محال ونظيره قوله تعالى: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} [المرسلات: 6] وقوله تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [طه: 113] وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] وقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} [النجم: 9] وأجابوا عنه من وجوه كثيرة والأصح منها وجه واحد وهو أن يكون المعنى أو يزيدون في تقديركم بمعنى أنهم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة، وهذا هو الجواب عن كل ما يشبه هذا.
ثم قال تعالى: {فَئَامَنُواْ فمتعناهم إلى حِينٍ} والمعنى أن أولئك الأقوام لما آمنوا أزال الله الخوف عنهم وآمنهم من العذاب ومتعهم الله إلى حين، أي إلى الوقت الذي جعله الله أجلاً لكل واحد منهم.


{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء عليهم السلام عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها وسخافتها، ومن جملة أقوالهم الباطلة أنهم أثبتوا الأولاد لله سبحانه وتعالى، ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال: {فاستفتهم أَلِرَبّكَ البنات وَلَهُمُ البنون} وهذا معطوف على قوله في أول السورة: {فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً مِن خَلَقْنَا} [الصافات: 11] وذلك لأنه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولاً ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض إلى أن أمره بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولأنفسهم البنين، ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا: إن قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا: الملائكة بنات الله، واعلم أن هذا الكلام يشتمل على أمرين أحدهما: إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه كيف يمكن إثباته للخالق والثاني: إثبات أن الملائكة إناث، وهذا أيضاً باطل لأن طريق العلم إما الحس وإما الخبر وإما النظر، أما الحس: فمفقود هاهنا لأنهم ما شهدوا كيفية تخليق الله الملائة وهو المراد من قوله: {أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا وَهُمْ شاهدون} وأما الخبر: فمنقود أيضاً لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون، لم يدل على صدقهم لا دلالة ولا أمارة، وهو المراد من قوله: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لكاذبون} وأما النظر: فمفقود وبيانه من وجهين:
الأول: أن دليل العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل، فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً والوجه الثاني: أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم، بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا ذلك الدليل فضده يظهر أنه لم يوجد ما يدل على صحة قولهم وهذا هو المراد من قوله: {أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ * فَأْتُواْ بكتابكم إِن كُنتُمْ صادقين} فثبت بما ذكرنا أن القول الذي ذهبوا إليه لم يدل على صحته، لا الحس ولا الخبر ولا النظر، فكان المصير إليه باطلاً قطعاً، واعلم أنه تعالى لما طالبهم بما يدل على صحة مذهبهم دل ذلك على أن التقليد باطل، وأن الدين لا يصح إلا بالدليل.
المسألة الثانية: قوله: {أَصْطَفَى البنات على البنين} قراءة العامة بفتح الهمزة وقطعها من {اصطفى} ثم بحذف ألف الوصل وهو استفهام توبيخ وتقريع، كقوله تعالى: {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16] وقوله تعالى: {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} [الطور: 39] وقوله تعالى: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} [النجم: 21] وكما أن هذه المواضع كلها استفهام فكذلك في هذه الآية، وقرأ نافع في بعض الروايات: {لكاذبون * اصطفى} موصولة بغير استفهام، وإذا ابتدأ كسر الهمزة على وجه الخبر والتقدير اصطفى البنات في زعمهم كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] في زعمه واعتقاده.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} واختلفوا في المراد بالجنة على وجوه:
الأول: قال مقاتل: أثبتوا نسباً بين الله تعالى وبين الملائكة حين زعموا أنهم بنات الله، وعلى هذا القول فالجنة هم الملائكة سموا جناً لاجتنانهم عن الأبصار أو لأنهم خزّان الجنة، وأقول هذا القول عندي مشكل، لأنه تعالى أبطل قولهم الملائكة بنات الله، ثم عطف عليه قوله: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} والعطف يقتضي كون المعطوف مغايراً للمعطوف عليه، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية غير ما تقدم الثاني: قال: مجاهد قالت كفار قريش الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكرالصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سروات الجن، وهذا أيضاً عندي بعيد لأن المصاهرة لا تسمى نسباً والثالث: روينا في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الجن} [الأنعام: 100] أن قوماً من الزنادقة يقولون: الله وإبليس أخوان فالله الخير الكريم وإبليس هو الأخ الشرير الخسيس، فقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} المراد منه هذا المذهب، وعندي أن هذا القول أقرب الأقاويل. وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان واهرمن ثم قال تعالى: {وَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي قد علمت الجنة أن الذين قالوا: هذا القول محضرون النار ويعذبون وقيل المراد ولقد علمت الجنة أنهم سيحضرون في العذاب، فعلى القول الأول: الضمير عائد إلى قائل هذا القول، وعلى القول الثاني عائد إلى الجنة أنفسهم، ثم إنه تعالى نزه نفسه عما قالوا من الكذب فقال: {سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} وفي هذا الاستثناء وجوه، قيل: استثناء من المحضرين، يعني: أنهم ناجون، وقيل هو استثناء من قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} وقيل: هو استثناء منقطع من المحضرين، ومعناه ولكن المخلصين برآء من أن يصفوه بذلك، والمخلص بكسر اللام من أخلص العبادة والاعتقاد لله وبفتحها من أخلصه الله بلطفه، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8